الحب لا غير لزوم كل ما يلزم بقلم: غادا فؤاد السمان

06 أكتوبر 2021

بعدما أصبح من الميسور جدّاً أن نتبادل كلّ صباح عباراتٍ فضفاضةٍ للحبّ، وأدعيةٍ متخمةٍ بالأخطاءِ الإملائية، وصلواتٍ تلقينيّةٍ لا تعرف معنى التجلّي بين الذاتِ الصُغرى والذاتِ المُطلَقة، ومحاضراتٍ وعظيّة من هذا وذاك، وتَهانٍ من هنا وهناك، وأمنياتٍ لا تُحصى، على مدار الساعات، والمناسبات، وعدد أيام الأسبوع، والأشهر، والسنوات، دون أن ينتبه الجميع أنه قد ابتعد عن دور الحوار المشترك، وعن أهمّيته وضروراته وقيمته الإنسانيّة أولا، والاجتماعيّة ثانياً وثالثاً وأخيراً، وانفضّ عن المواضيع المصيريّة، وانتهى من متابعة الخوض في مسألة القضايا العالقة والشائكة وفي مقدمها "فلسطين "..
تماماً كما تنصّل الجميع من الصداقات الحميميّة الحقيقيّة الصادقة الداعمة والمسانِدَة، بل اعتمد الجميع الرموز البدائيّة التي كان ينتهجها إنسان "الطوطم "، قبل أن يكتشف جمال اللغة التي تمنح القدرة على تشغيل عدد كبير من الحواس، والمشاعر، والتعابير المختلفة في الملامح وفي الجسد، فلكل حالة من حالات التعبير لغة جسدية مرافقة ومتطابقة حرفيّاً، ولا يمكن التلاعب بها على الإطلاق بين لغة اللسان ولغة الجسد، فللحبّ لغة في ملامح الجسد، وعضلاته، ونبضه، ومفاصله، يرافقها تباطؤَ أو تصعيد أنفاسٍ ونبضٍ، كذلك للغضب لغة، وللسخط لغة، وللحسد لغة، وللحقد لغة، وللغيرة لغة، وللقلق لغة، وللرضى لغة، وللطمأنينة، وللحنان، وللود، إلى آخر ما تكتنز به الأعماق من مشاعر وعواطف وأحاسيس ونُزعات...

وصلني منذ وقت قريب جداً من جملة ما يتراكم ويغيض ويفيض ويصل في "الواتس آب " مقطع متلفز لصانع "المعرفة "، ومؤجّج "الثورات " الفكرية، والمُحاضر الشامل والإعلامي مؤخّراً على شاشة RT ببرنامج إسبوعي بعنوان "العالم إلى أين " يطرح فيه محاكاة للواقع العربيّ، والعالميّ، ويسجّل مواقفَ، ويحرّض الجميع على النقاش، والمتابعة الكثيفة عبر وسائل التواصل الإجتماعي، الأمر الذي استهلك وقته وجهده، مما اضطّره أن يعلن مُؤخراً عن حاجته لبعض الراحة، وخاصّة بعد إصابته بمخالب "كورونا " التي لم توفّره، على أن يعود ببرنامج جديد لايقلّ أهميّة عن سابقه إن لم يكن أهم، هو أيضاً صاحب "الكرسي " الدائم في الأمم المتّحدة، والخبير المحلّف والمكلّف في إعداد الخطط الإقتصادية لأهم البنوك والشركات في العالم، كما يفضّل أن تدعوه بدون مقدمات وألقاب "طلال أبو غزالة " لاغير، فهو يسعى جاهداً منذ سنواتٍ وسنوات لتكريس اسمه في خضّم المشروع الألكتروني الأكبر في العالم العربي، الذي دخل السوق المنافسة من الباب الواسع العريض للأدوات العصريّة، التي لابدّ من اقتنائها في كل دارٍ ودائرةٍ حكوميّة وخاصّة، لكن المختلف واللافت في هذا المقطع المتلفز كان ثمّة تصريح فريد من نوعه استوقفني طويلاً عندما سألت المذيعة أبو غزالة: "ما سرّ كل هذه النجاحات في مسيرة "طلال أبو غزالة "؟! ..
كان الجواب مفاجأة حقيقيّة إلى حدّ الدهشة التي افتقدناها تماماً بل افتقدناها كليّاً في زمن الصراعات والإنهيارات الكبرى، حيث أصبح كل شيء مُسبق التوقّع والإعداد، وحيث صار التصنّع والتكلّف والزيف والمُراوغة لمعظم أفراد المجتمع سِمات لا بدّ منها، وخاصّة في عالم الأعمال، كان الجواب غير ما هو مفروغ منه في الشائع، وخارجاً عن كل مألوف من حوارات رجال الإقتصاد والأعمال وصنّاع النجاح في العالم وخاصّة "العربي "، وكل توقعاتي الإستباقيّة ذهبت هباء، حين قدّرتُ أنه سيتحدّث عن الخبرة، والحنكة، والمهارة، والذكاء، والمثابرة، والموهبة، والقدرة، والفطرة، والموروث، والتجربة، والثقة، والأنا، والتميّز، وتطوير المهارات التي دخلت حديثاً مناهجها التعبويّة في كلّ هيكل ومحفل وإلخ.. إلخ..

لكنّ هذا القاموس لم يجد إلى قناعته سبيلاً أبداً، بل أوجز مع ابتسامةٍ وادعةٍ وواثقة: السرّ هو "الحبّ ياسيدتي " وكرّر قناعته "الحبّ ولاشيء غير الحبّ "، ثم استطرد قائلاً: "أنا لم أنجح بمفردي أنا نجحت بمن معي، حين اقتربت من الجميع دون استثناء، وحين أحببتهم دون مفاضلة، فلا فرق عندي بين المستشار الشخصي، وبين عامل التنظيفات في المؤسسة، فكما أشرب القهوة مع هذا، بوسعي أن أتقاسم اللقمة مع ذاك، أحببتُ كل العاملين في مؤسستي واعتبرتهم شركاء نجاح، لدرجةٍ تُشعرهم أنهم عائلة ينتمون إلى بعضهم، ويحرصون على بعضهم، ويخافون مع بعضهم على مؤسستهم التي أنشأتها أول ما أنشأتها في بلدي "الكويت " الحبيب الذي أدين له بانطلاقتي الأولى، والتي بدأتها من "بكاج سيارتي "، وبعد أشهر قليلة انهالت العروض علي من كل صديق كويتي وكل مكتب وكل شركة كويتية، ليكون لي مركزي وموقعي بعيداً عن "بكاج سيارتي "وهذا ليس بجديد على أهل الكويت أهل الكرم والجود، أهل الشجاعة والمواقف، وبمساعدتهم ومساندتهم فعلاً افتتحتُ الشركة الخاصّة ونجحتُ نجاها باهراً، وكل ذلك كان بفعل الحبّ والإيمان والثقة والصدق، وتوسّعت الشركة حتى انتشرت فروعها في 128 دولة في العالم، وأضحى نجاحي نجاح الجميع، وفشلي فشلهم، ولم أتردّد يوماً في التعبير عن امتناني لبدايتي في هذا البلد المحبّ للآخَر والمعطاء بكل ما للكلمة من معنى، كل ملامح الحبّ في ابتسامتي، ودُعاباتي، ومصافحاتي، التي وإن أرهقتني أحياناً تظلّ مفتاح سعادتي، لهذا استطعت أن أكبر وأن أصمد رغم كل المراحل الصعبة التي مررتُ بها، وكان الحبّ يواكبني في كل خطوة كأوفى صديق أعطاني القدرة على البدء من جديد في كل نكسة كنتُ أتعرّضُ لها، وبفضل الله، وبفضل الحبّ، كنت أخرج منها أصلب وأشدّ وأقوى وصولاً إلى ما أصبحت عليه اليوم من النجاح والحضور والتكريس"...

طبعاً تابعتُ المقطع المتداول بكثافة على وسائل التواصل، وأنا أضعُ كافّة مقاييسي وقناعاتي موضع المفارقة والمقارنة والمقاربة مع "أبو غزالة " أنا التي قلتُ في مطلع إحدى مجموعاتي الشعريّة:"عندما أحبّ لن أكتب شِعراً فالحبّ لي وشِعري لمن يفقه "..
أخجلني تأجيلي المتواصل للإفصاح عن الحبّ، أوجعني تنصّلي من تفاصيل الحبّ، أربكني افتقاري إلى القدرة عن إشهار الحبّ.. لجيراني الذين يقدّمون التحيّة في المصعد، أو على درجات السلّم عند انقطاع التيار الكهربائي الذي لابدّ منه في لبنان كالفروض الخمسة، فما أكثر الذين حرمناهم من مشاعرنا، ووضعنا بيننا وبينهم شريط شائك أو دُشَمٍ إسمنتية، ما أكثر الذين أوصدنا في وجههم بوابات القلب، والروح، والوجدان، بحجّة أنّهم أقلّ منا معرفةً وحضوراً وأضواء..
شعرت بحاجةٍ ملحّةٍ إلى البدء من جديد للتعلّم في أبجدية الحبّ من ألفها إلى يائها فعلاً، ولكن لا أخفي خوفي كيف سيفهم المجتمع هذا الإنقلاب الجذري إنْ حَصَل ؟!!....
مع نهاية الفيديو المجتزء كان ثمّة سؤال جائر يراودني عن يقيني.. "تُرى عن أيّ حبّ يتحدّث هذا الرجل الكبير أبو غزالة ؟!!"..

عن ذاك الحبّ الرومانسي الذي ننشده جميعاً ونعاني من فراغاته الضارية، ونتشبّث به كالمراهقين حتى أواخر العمر، عن حبّ الطفولة وطيشها العذب وبراءاتها التلقائية التي تتدفّق بعفويّة كالينابيع، عن حبّ التفاني الذي نتمسّك به بشراسة حتى وإن نعتنا الجميع بالبلهاء..
هل هذا هو الحبّ في ديدن أبو غزالة فعلاً، أم أنه كان يرمي إلى حبّ من نوع مشهود لدى شخصيات الاقتصاد والسياسة والسلطة المعروفة..
وهنا يأتي دور الآخر في الحسم، فكل من عرف أبو غزالة عن قرب واستطعت إلى سؤاله سبيلا.. قدّم أطروحة بدل الشهادة بحقّ الرجل، وهنا تسأل نفسك هل شهد شاهد من أهله حقّاً أم زوراً، وهنا كان دور حرف الصحافة وحُرفيّتها وهو البحث في زوايا الزوايا، والتشكيك في كلّ الأضواء مهما كانت خافتة أو مُبهِرة، فالحبّ في هذا الزمن له ألف وجهٍ ووجه صار مقنّعاً علناً وبالضرورة..
إذاً حين تعمّد أبو غزالة الإفصاح عن الحبّ كان محقّاً جدّاً لأنه الضوء الوحيد الذي ينيرالأفق على جميع الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والعلميّة والعمليّة ويزيح عتمة النفوس، وعتمة العقول، وعتمة الأرواح، ليت ابو غزالة يتفضّل بسكب معرفته في لبنان لرأب كل التصدّعات الماليّة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظلّ الإنزلاقات التي تهدّد لبنان تباعاً بالانهيار الكبير